-
سوريا بين مطرقة الظلامية وسندان التقسيم

منذ استلمت هيئة تحرير الشام من نظام الأسد سلطة الأمر الواقع وزمام الحكم في سوريا بترتيب دولي اقتضته ضرورات اتفق عليها قادة الإقليم والعالم، لم يمر يوم واحد لم يعترِ فيه الشعب السوري قلق وجودي لم يجربه منذ صنعت اتفاقية سايكس بيكو قبل مائة عام سوريا الجديدة.
أتى ذلك القلق ولم يزل حين لم تقدم تلك الهيئة نفسها كمشروع دولة حتى ولو وصفت بالانتقالية لا على مستوى الخطاب ولا على مستوى الأداء، بل راحت تمارس هيمنة على كافة مفاصل الدولة وإلغاءً للعديد من مؤسساتها وإحلالاً لعناصرها غير المؤهلة مكان تلك المؤهلة والقائمة على عملها والخبيرة بكافة شؤون تلك المؤسسات وذلك بناءً على معيار طائفي وقومي ومناطقي عَكَسَ نية الهيئة نحو إقصاء كافة كوادر النظام السابق واحتلال كافة مرافق البنية الهيكلية للدولة.
لم يقف تغول الهيئة عند هذا الحد، بل فرضت على الدولة مكونات جديدة من عناصر فصائلها غير السوريين وغير العرب راحت تمنحهم الجنسية السورية في سلوك غير مسؤول يحقق رغبتها في تشكيل بنية حاكمة لا تمت للشعب السوري بصلة.
ولعل أبشع ما ارتكبته الهيئة من حماقات كان تلك المجازر الدموية في مناطق العلويين شهر آذار العام 2025 والمجازر في مناطق الدروز تموز العام ذاته، وكان ذلك بعد خطاب طائفي عدائي أدارته وأشرفت عليه بواسطة أبواقها على محطاتها الإعلامية الرسمية وغير الرسمية وكذلك عبر حسابات على منصات التواصل الاجتماعي تعمل لصالحها، الأمر الذي مهد لغليان في أوساط أنصارها الذين استجابوا لتجييشها من مختلف المحافظات السورية مدفوعين بحقد أعمى واصطفاف طائفي ونهج تكفيري ونوازع عدوانية حاملها جهل وتخلف راسخَين وتباين جلي بين ثقافات لم تتمكن من الاندماج أو التعايش فتحولت من عامل قوة كما كنا نظن كسوريين إلى عوامل ضعف كما تأكد لنا.
ويعلم الجميع أن سوريا منذ الأزل مُتَصارَع عليها، ولا تكاد تلوح في الأفق فرصة مواتية إلا ويستغلها المتربصون بها للانقضاض على أراضيها والإمعان في تجزئتها وتفتيتها.
والآن، ونحن في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ سوريا، اللحظة التي كشفت مدى هشاشة وحدة السوريين وأكذوبة انسجامهم وفرية تآخيهم وعدم تجاوز تلك القيم حدود النطق بها لتبقى شعارات واهية وقيماً لم يوحدها سوى القمع، فجميع مكونات سوريا كانت تعيش تحت شرط العسف والظلم والإقصاء ذاته، وحَّدتها الديكتاتورية وفرَّقتها لحظة الحرية.
لكنها لم تكن حرية، لم يكن نصراً مؤزراً ولا فتحاً مبيناً، بل تبادل أدوار وظيفية فحسب، خروج من قبضة قاتل على شكل دولة إلى قبضة قاتل على شكل هيئة، يسوس الأول بفكر بعثي يميني عفن ويسوس الآخر بفكر ظلامي تكفيري بغيض.
في هذه اللحظة التاريخية، توفرت كل أسباب الفرقة والتقسيم، تجلت في ظهور أفكار بدأت بالمطالبات بإدارات ذاتية ولن تتوقف عند الفدرلة، بل هي مرشحة اليوم إلى التصاعد نحو المطالبة بالانفصال، وكان ذلك نتيجة حتمية لسلوك ما يسمى بالسلطة الانتقالية، السلوك الذي راح يدفع دفعاً باتجاه خلخلة البنية الجغرافية والديموغرافية لسوريا، السلوك الذي دق الأسافين بين طوائف سوريا وقومياتها كي يضع الجميع أمام استحالة بقاء البلاد موحدة أرضاً وبالتالي شعباً، الهدف الذي لا يخدم سوى إسرائيل التي ومنذ عامين أطلقت مشاريع توسعية على أكثر من جبهة، خاضت صراعاً في بعضها، وتخادمت مع قيادات أخرى لتحقق غاياتها بفاتورة زهيدة من ناحيتها لكنها ثمينة جداً بالنسبة لنا كسوريين دفعنا دماءنا وبذلنا أرواح أحبتنا في بازارها السياسي الخطير الذي سوف يغير وجه المنطقة عامة.
ولعل السؤال الكبير هنا يكمن في البحث عن حل يمكن أن يخرج سوريا من هذا الانهيار، والأهم من هذا السؤال، توفر إمكانية لأي حل يمكن طرحه، سيما وأن أي حل لا يبدأ بإسقاط سلطة الأمر الواقع هذه هو حل غير ممكن، وإذا صار وتحقق هذا الشرط، فإن مؤتمراً دولياً يعقد في سوريا يضم كافة مكونات الشعب السوري يخرج بخطة طريق تطبق القرار 2254 كخطوة أولى لا بد منها لبناء سوريا موحدة أرضاً وشعباً، ولئن بدا أمر تنحية تلك السلطة غير ممكن أو لم تتوفر إرادة دولية لذلك، فإننا ذاهبون لا محالة إلى تقسيم وشيك لكن بتكلفة باهظة.
نزار غالب فليحان
العلامات
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!