-
السيناريو المحتمل وراء تصريحات الرئيس الإيراني باحتمال إخلاء طهران
السيناريو المحتمل وراء تصريحات الرئيس الإيراني باحتمال إخلاء طهران
د .سامي خاطر/ أكاديمي وأستاذ جامعي
في تصريحٍ مثير للدهشة والجدل في آنٍ واحد طلّ علينا الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ليعلن احتمال إخلاء العاصمة طهران التي يقطنها نحو اثني عشر مليون إنسان.. لم يكن التصريح عابرًا ولا مجرد تحذيرٍ إداريٍّ خالٍ من مخاطر بيئية أو زلزالية، كما حاولت بعض وسائل الإعلام الرسمية الإيحاء بذلك؛ بل جاء محمّلًا برسائل سياسية وأمنية واقتصادية تكشف حجم الارتباك والقلق داخل أروقة النظام الإيراني.. وتصريحٌ بهذا الثقل لا يمكن أن يصدر عن رئيسٍ لدولةٍ تموج بالأزمات من دون أن يكون جزءًا من حسابات استراتيجية أعمق لاسيّما في ظل مرحلةٍ تتكثّف فيها مؤشرات الخطر الداخلي والانكشاف الأمني للنظام.
مؤشرات الخوف داخل النظام: بين انهيار الثقة وتفكك الأجنحة
ما يجعل تصريح بزشكيان خطيرًا هو توقيته.. فالسلطة في إيران تعيش واحدة من أكثر مراحلها هشاشةً منذ عام 1979، والصراعات بين أجنحة النظام قد بلغت حدًّا خطيرًا لم يعد خافيًا حتى على الرأي العام، وأجهزة الدولة غارقة في انعدام الثقة المتبادل بين العسكريين والأمنيين والسياسيين..
لقد تكرّرت خلال العامين الأخيرين فضائح تجنيد شخصيات بارزة من داخل النظام لصالح أجهزة استخبارات غربية، وهو ما أضعف تماسك النظام أكثر من أي ضربة عسكرية.. بل يمكن القول إنّ الاختراقات الاستخباراتية كانت أقسى على الملالي من تفجير ميناء رجائي أو اغتيال قادة الحرس الثوري؛ من هنا يبدو أن النظام لم يعد يخشى فقط "العدو الخارجي" بل بات يخاف من نفسه.. فالدوائر الضيقة لم تعد موثوقة، وملفات الأسرار لم تعد مغلقة، وتحوّل القصر الرئاسي ومجلس الأمن القومي إلى مسرحٍ للتجسس المتبادل والمراقبة الخفية.
الأول دائماً...
هل تتحول طهران إلى مدينة مغلقة للموالين؟
إحدى الفرضيات التي تطرحها دوائر المراقبة السياسية هي أن نظام الملالي يسعى إلى إعادة هندسة العاصمة الإيرانية.. فطهران التي تحتضن مؤسسات الحكم والاقتصاد والإعلام والمال قد تتحول إلى مدينة مغلقة للموالين للنظام فقط.. وفي هذا السيناريو يُراد للعاصمة أن تكون حصنًا أمنيًا محكمًا أشبه بـ "المنطقة الخضراء" في بغداد بعد الغزو الأميركي، ويتم إبعاد المعارضين والمستقلين والفقراء إلى الأطراف أو المحافظات الأخرى بينما تبقى طهران مركزًا عسكريًا وأمنيًا وإداريًا خالصًا للنظام وأتباعه.
إنّ إخلاء الملايين من السكان يمكن أن يُقدَّم في الظاهر كإجراء تنظيمي أو بيئي؛ لكنه في جوهره قد يخفي عملية تطهير اجتماعي-سياسي ممنهجة تهدف إلى ضمان بقاء العاصمة تحت السيطرة التامة للحرس الثوري وأجهزة الأمن.
هاجس الحرب أم الخوف من الثورة؟
السؤال الجوهري هنا هو: هل يخشى النظام الإيراني حربًا خارجية قادمة.. أم أنه يرتعب من انتفاضة داخلية شاملة؟
المؤشرات تميل إلى الاحتمال الثاني دون استبعاد الأول؛ فالنظام يدرك أن حربًا إقليمية في ظل العقوبات والضغوط الاقتصادية ستكون كارثية على وجوده، لذلك يُفضِّل التمهيد لحالة نقلٍ سكانيٍ واسع النطاق لتقليل الخسائر المحتملة أو لحماية رموز النظام ومؤسساته الحيوية خاصة أن الثورة واقعة لا محالة في كلتا الحالتين.. لكنّ الأرجح أن الخوف الحقيقي هو من انفجار شعبي داخلي بعد عقود من القمع والفقر والفساد. فإيران اليوم تقف على برميل بارود اجتماعي؛ شبابٌ ساخط، واقتصادٌ منهك، وشرعيةٌ متآكلة. وقد أظهرت احتجاجات عامي 2019 و2022 أن النظام لم يعد يملك أدوات الضبط القديمة، وأن أي شرارة قد تتحول إلى ثورة لا يمكن احتواؤها.
هل الإخلاء إجراء استباقي أم تعبير عن حالة اللاوعي السياسي؟
في قراءة تحليلية أعمق قد يكون حديث بزشكيان تعبيرًا عن عقلٍ مأزوم يعيش حالة اللاوعي السياسي.. فالنظام يعيش في حلقة مغلقة من الخوف والشك يفسّر كل حركة في الشارع على أنها مؤامرة، وكل حادثة طبيعية على أنها تهديد وجودي، ومن هذا المنظور يصبح الحديث عن إخلاء العاصمة انعكاسًا لذهنيّة محاصَرة أكثر من كونه خطة واقعية.. فالمؤسسات الرسمية نفسها غير قادرة على تنفيذ مشروع بهذا الحجم في ظل أزمة بنيوية في الإدارة، وتفكك شبكات القرار، وتردي البنية التحتية، ومع ذلك لا يمكن استبعاد أن يكون هذا الإعلان بالون اختبار سياسي لقياس ردود فعل الداخل والخارج أو محاولة لإشغال الرأي العام الإيراني بقضايا ثانوية فيما يستمر النظام في هندسة مرحلة ما بعد خامنئي بهدوء.
الرسالة الخفية.. النظام يخشى الزوال
وراء كل تلك التفسيرات تبقى الحقيقة الأكثر وضوحًا أن النظام الإيراني يشعر بأن نهايته تقترب.. فكل خطوة يتخذها تحمل طابع الدفاع عن النفس لا الهجوم، وتاريخ الأنظمة الشمولية يثبت أنه حين تبدأ السلطة في التفكير بإخلاء عاصمتها تكون قد بدأت بإخلاء شرعيتها.
إن إيران اليوم ليست دولةً تسير نحو الاستقرار، بل نحو مرحلة انتقالية حادة، عنوانها فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين النظام ذاته ومؤسساته.
ما بعد التصريح
خلاصة القول.. ليتهم يتحلون بالشجاعة ليفعلوها وينقلون سكان طهران إلى خارجها...!!!
قد يكون تصريح بزشكيان نقطة تحول في الخطاب الرسمي الإيراني إذ يعكس مخاوف غير مسبوقة من الانهيار الداخلي؛ فسواء كان الإخلاء خطة واقعية أو مجرّد تهويم سياسي فإنّ مجرد طرح الفكرة من رأس الدولة يؤكد أن الزلزال الحقيقي في إيران ليس زلزلاً جيولوجيًا بل سياسيًا واجتماعيًا.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يسعى النظام إلى النجاة من العاصفة عبر إفراغ العاصمة أم أنه يسير مخموراً نحو نهايته وهو يحاول إعادة ترتيب المقاعد في سفينته الغارقة؟
قد تحب أيضا
كاريكاتير
تقارير وتحقيقات
الصحة|المجتمع
منشورات شائعة
النشرة الإخبارية
اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!

